الخطبة الأولى
الحمد لله خلق الإنسان، علمه البيان، وحذره من آفات اللسان، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهدتاً تفتح لقائلها أبواب الجنان، وتغلق عن أبواب النيران، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أهل البر والإيمان، وسلم تسليماً كثيرا أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، وتحفظوا من ألسنتكم، وحذروا من عواقب كلامكم، قال الله سبحانه وتعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)، وقال تعالى:(أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ، وقال عليه الصلاة والسلام: وهل يكبوا الناس على وجههم؟ أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم .
فتقوا الله، عباد الله، وتحفظوا من ألسنتكم، وزنوا كلامكم، فإن الكلام يُحصى عليكم، ويُكتب في صحائفكم (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
فتقوا الله، عباد الله، واعلموا أن كلامك محصن عليكم، ومحاسبون عليه، فإن كان خيراً أثمر لكم خيرا، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، وإن كان كلاماً سيئاً فستندمون يوم لا ينفع الندم، وإن أقبح الكلام، وأشد الكلام الشرك بالله عزَّ وجل من دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله غير ذلك من الألفاظ الشركية، فتجنبوها، وكذلك من أقبح الكلام القول على الله بغير علم وهو عديل الشرك، عديل الشرك بالله أو هو فوق الشرك بالله، قال تعالى:(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، وذلك كالقول بأن الله أحلا كذا، أو حرم كذا من غير دليل من الكتاب والسنة، فلا يجوز القول على الله بغير علم، والخوض في أحكام الشرع بتحليل والتحريم إلا لمن عنده علمٌ وبصيرة، ومن أقبح الكلام شهادة الزور، فقد عدلت شهادة الزور شركاً بالله عز وجل مما يتساهل فيه الناس، ويجعلون الشهادة إنما هي من باب الفزعة لأصدقائه وعشيرته وأقاربهِ فيُساعدهم بالشهادة ولو كان كاذبا، ولو كان لا يعلم ما يقول، والله تعالى يقول:(إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، (وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا)، فلا يجوز للإنسان أن يشهد إلا إذا كان صادقاً في شهادته يريد بيان الحق لا يريد بها الهواء والميل مع أحد الناس على الآخرين، وإن من أقبح الكلام فيما بين الناس الغيبة والنميمة، والغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره، والنميمة: هي نقل الحديث بين الناس على وجه الإفساد بينهم قال الله جلَّ وعلا:(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيم)، وقال جلَّ وعلا:(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ)، فالغيبة والنميمة من أقبح ما يُفسد بين الناس، ويُوقع العداوة بينهم، وكذلك السُخرية من الناس، وتنقص الناس، وتتبع زلاتهم، ونقل الحديث فيما يسيء إلى لآخرين، فتقوا الله، عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات .
فتقوا الله عباد الله، وتحفظوا من ألسنتكم، فإن اللسان هو أخطر الأعضاء، ولهذا كل الأعضاء تتبرآ من اللسان وتعظه وتخوفه بالله، تقول الله اتقي الله فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعووجنا، قال صلى الله عليه وسلم: أكثر ما يدخل النار، أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج يعني اللسان، والكلام البذيء، والزنا، والفواحش وقال صلى الله عليه وسلم: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة .
فتقوا الله، عباد الله، تحفظوا من ألسنتكم فإنها سلاحٌ ذو حدين،كثير من الناس لا يبالي بإطلاق لسانه في المجالس، وفي تتبع عورات الناس ونشرها (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، على المسلم أن يشتغل بعيوبه، ويترك عيوب الآخرين، إلا من باب النصيحة فيما بينه وبينهم، أما أن يتخذ من أخطاءهم مجالاً للحديث فيهم في المجالس فإن ذلك من أعظم الإثم، حتى ولو كانوا واقعين فيما يذكره عنهم، فإن ذلك من الغيبة.
فتقوا الله، عباد الله، إن اللسان إما أن يجني لك خيراً إن استعملته بذكر الله، وبطاعة الله، ونطقت به للخير، وإما أن يجني عنك شرا، إن استعملته في الغيبة والنميمة والكلام المحرم، وما أسهل الكلام المحرم، وما أسهل الغيبة النميمة على كثير من الناس، وإن اللسان من بين الأعضاء لا يكلف الإنسان ولا يتعبه فيتحرك الحركات الكثيرة ولا يتعب، بخلاف الأعضاء فإنها إذا تحركت تتعب، فاللسان خطره عظيم، وشره وبيل، إلا من اتقى الله وحفظ لسانه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من أخطر عيوب اللسان، الكذب في الحديث، وهو صفة المنافقين قال صلى الله عليه وسلم: آية المنافقين ثلاث: إذا حدًّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أتمنى خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر ، فأول هذه الصفات القبيحة الكذب في الحديث، كثيرٌ من الناس لا يبال بهذا، وقد يتخذ الكذب في الحديث من باب المزاح، ومن باب إضحاك الناس، وهو لا يدري أنه يحمل نفسه أوزاراً،ويعرضها أخطاراً، وهو جالس يتفكه بالكلام، فيما لا يُعينه قال صلى الله عليه وسلم: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، فالمسلم يحفظ لسانه إلا فيما فيه فائدة ، ما فيه خيرٌ له، وخيرٌ للمسلمين، قال تعالى:(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)، فالكلام الكلام كُله خفيف على اللسان لكن من هو قبيح يُرد صاحبه إلا النار، كان أبو بكر رضي الله عنه يأخذ بلسان نفسه ويقول (هذا الذي هو أردنا الموارد)، كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول (أيها اللسان قل خيراً تغنم أو اسكت عن شرٍ تسلم، وإلا فإنك ستندم)، قال الله جلَّ وعلا:(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيما)، وقال صلى الله عليه وسلم: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ، فأكثروا من هذا الكلام الطيب، من قول لا إلا الله، والإكثار من ذكر الله، وتلاوة القرآن، وتسبيح وتهليل وتكبير لتغرس لكم غراساً في الجنة بكل كلمة تقولونها من هذا الكلام الطيب، تغرس لكم غراساً في الجنة وأنتم جالسون لا تتكلفون شيئاً، ولا تنقون شيئاً من أموالكم، فاللسان أمره عظيم إن استعملته في الخير حصل لك خيراً كثيراً من غير تكلف، وإن استعملته في الشر أوقعك بالنار وغضب الله، وأنت لا تلقي لذلك بالاً، فتحفظ من لسانك أيها المسلم،
أحفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهابُ لقائه الشُجعانُ
فتقوا الله، عباد الله، وتحفظوا من ألسنتكم، وزنوا كلامكم، فما كان فيه خير فتكلموا، وما كان فيه شر فسكتوا عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت .
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديِّ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه وتعالى:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبينا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابة أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين، اللهم أدفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذا خاصة وعن بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين، اللهم ولي علينا خيارنا وكفينا شر شررنا ولا تسلط علينا بذنوبنا ما لا يخافوك ولا يرحمنا، اللهم اجعل وليتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما فيه صلاحه وصلاح الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح بطانته وجلساءه ومستشاريه وأبعد عنه بطانة السوء والمفسدين (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
عبادَ الله،(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون .