تذكُّر نعمة الله على هذه البلاد
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في محكم كتابه المجيد (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل الرسل وخلاصة العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الاستقامة والتوحيد، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمه وإياكم والغفلة عن شكر الله وذكره فإن ذلك هو الهلاك المبين.
عباد الله، إذا نظرنا في تاريخ هذه البلاد نجد العِبر والعِظات، فبلاد نجد كانت بعد سقوط الدولة العباسية كانت بلاداً مغفولاً عنها، لأنها ليس فيها مطامع، فكانت مغفولاً عنها، و يحكمها أهلها متقطعين، كل بلد له أمير، وأيضاً بينهم حروب وثارات وغارات، يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بضعهم بعضاً، لا أمن، ولا استقرار، ولا هدوء بينهم، دائماً في شغل القتال بينهم، حتى البلد الواحد ربما تكون الحارات فيه بينها نعرات وثارات وقتال، هكذا كانت حالتها من جهة السياسة، ومن جهة الاقتصاد كانت بلاداً فقيرة، تعيش الفقر والحاجة، كما هو معلوم من قرأ تاريخها وعرف حالها، فلما أراد الله بها خيراً ظهر فيها عالمٌ نوَّر الله قلبه، وفقهه في دينه، فنظر في حالتها، وقارنها بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن جاء بعدهم من السلف الصالح، فوجدهم متخلفين في عقيدتهم، وفي عبادتهم، وفي سياستهم، فقام بدعوة التوحيد إلى الله عز وجل، دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى حكم الله ورسوله، كانوا من قبل يتحاكمون بالأعراف القبلية، والعادات فيما بينهم، العادات الجاهلية يتحاكمون إليها، ينتشر بينهم السحرة والكهان، ينتشر بينهم عبادة القبور والأضرحة والأشجار والأحجار، فمنَّ الله على هذه البلاد، بأن يسر لها هذا العالم الرباني، الذي أدرك ما هي عليه من الخطر، وأدركته الغيرة عليها، فقام يدعو إلى الله، وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وإنكار الشرك والبدع والمحدثات، وطلب من يناصره على هذه الدعوة، ولكن لم يجد أحداً، بل كان مطارداً إلى أن وصل إلى بلد الدرعية، وكانت تحت إمارة آل سعود، وكان له فيها بعض التلاميذ، فدخل عليهم وآووه وأضافوه، وجرى اتصال مع الأمير محمد بن سعود، وأُخبِر بحالة هذا العالم الذي وفد إليه، وطُلب منه أن يأتي إليه، وأن يرى ما عنده، فجاء الأمير إليه في بيت تلميذه يظنون أنه سيفتك به ويطرده كغيره، ولكن لمَّا عرض عليه الشيخ هذه الدعوة المباركة، وما تقوم عليه، وبيَّن له ثمراتها وعواقبها، اقتنع هذا الأمير ووافق الشيخ على هذه الدعوة، وتبايعا على كتاب الله وسنة رسوله، على الشيخ الدعوة والبيان، وعلى الأمير التنفيذ والجهاد في سبيل الله، تبايعا على ذلك بيعة شرعية مباركة، فأعلن الدعوة إلى الله عز وجل، وأعلن الجهاد على من عارض وخالف، فما هي إلا مدة يسيرة حتى توحدت البلاد كلها تحت حكم الله ورسوله، لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، اندحرت الشركيات والبدع، وامتد حكمها ما بين الشام إلى اليمن، ومن البحر إلى البحر شرقاً وغرباً، بادية وحاضرة، ودخل في دين الله وتوحيده وعبادته من كان ضائعاً في أول أمره، فازدهرت هذه البلاد بالعلم، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحكم بشريعة الله عز وجل، ومنَّ الله عليها بنعمه فازدهرت أيضاً من جهة الاقتصاد ومن جهة الدنيا كل هذا من بركات هذه الدعوة المباركة والتمسك بها، قامت على هذا الدولة الأولى لآل سعود بقيادة الأمير محمد بن سعود ثم قامت أيضاً بعده الفترة الثانية على هذه الدعوة بقيادة الإمام تركي بن عبدالله رحمه الله وابنه فيصل بن تركي ثم حصل عليها ما حصل ثم أعاد الله لها نعمته على يد الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل رحمه الله، فعادت لها حالتها الطيبة المستقرة الآمنة، ولا تزال ولله الحمد إلى وقتنا هذا ونرجو الله أن تستمر، نرجو الله أن يتمدد لها الخير، وأن تستمر، ولا شك أنها ستستمر بإذن الله ما دامت متمسكة بهذه الأصول العظيمة وسائرة على هذا المنهج السليم، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53]، وعْدُ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور:55]، على هذه الأصول الإيمان بالله والعمل الصالح وعبادة الله وحده لا شريك له بترك البدع والمحدثات والخرافات وترك الشرك الأكبر والأصغر بهذه الأصول العظيمة، وقال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:40-41].
عباد الله، ليس إحياء هذه الذكرى، ليس إحياءها باللعب، واللهو، والغفلة، والإعجاب بالقوة، أو الإعجاب بما نحن عليه من النعمة، ولكنَّ إحيائها بأمرين: الأمر الأول شكر هذه النعمة، والشكر هو قيد النعم، به تدوم النعم، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، والشكر يكون بثلاثة أمور، الأمر الأول: التحدث بهذه النعمة ظاهراً باللسان وذكرها، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11]، تُذْكر فتشكر، والركن الثاني: الاعتراف بها في القلب ولا يكفي اللسان لا بد أن يعترف أن هذه النعمة من الله لا بحولنا ولا بقوتنا وإنما هي من الله بسبب طاعة الله سبحانه وتعالى، والركن الثالث: صرف هذه النعم في طاعة الله عز وجل، وعدم صرفها في معصيته وفي اللهو واللعب، والغفلة عن ذكر الله، ليس بهذا تشكر النعم، وإنما تشكر النعم بما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه بما سمعتم ملخصاً له، فواجبٌ علينا جميعاً حكاماً ومحكومين، أن نتمسك بهذه النعمة، وأن نشكر الله عليها، وأن نثبت عليها، وأن نربيَّ عليها أولادنا، ونُنَشّئَ عليها مدارسنا، حتى تثبت هذه النعمة وتستقر بإذن الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمَْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: عباد الله، أيها الناس، اتقوا الله تعالى، اتقوا الله تعالى، واشكروه على نِعمه، ما عُرِف في التاريخ البشري من أوله إلى آخره أن دولة تسقط ثم تعود إلا هذه الدولة السعودية، تسقط ثم تعود، لماذا؟ لأنها قائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا عادوا إلى الله، تمسكوا بما قامت عليه هذه الدولة، أعاد الله لها نعمته عليها، فلنتذكر هذا ولنتمسك به، وانظروا يا عباد الله إلى ما يجري حولكم الآن في البلاد المجاورة، من النهب، والسلب، والقتل، والتدمير، يقتل بعضهم بعضاً، ويدمَّر بعضهم بعضاً، تدمَّر البلاد بأيدي أهلها، يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، فلنعتبر بذلك، وهذه البلاد تعيش ولله الحمد في أمن واستقرار، لا بحولنا ولا بقوتنا، وإنما في ظل هذه الدعوة المباركة، في ظل هذه الدعوة المباركة، وهذه النعمة العظيمة تعيش هذه البلاد ولله الحمد، ونسأل الله لها أن تتمسك بهذا الدين، وأن تدوم عليه ليُديم الله عليها نعمته.
عباد الله، إن هذه النعم لها ثمن، وثمنها هو الشكر، شكر الله جل وعلا عليها، والتمسك بها، والاعتراف بفضل الله علينا ومنَّه، وألا نطغى، ألا نُعْجبَ بأنفسنا، وبمجهوداتنا، وإنما ننسب هذه النعمة إلى فضل الله عز وجل، بسبب استقامتنا على دينه، وتحكيمنا لشرعه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما وعد الله سبحانه وتعالى من قام بذلك أن يُتمَّ عليه نعمته.
و اعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مستقراً، وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، نعوذ بك اللهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اصرفها عن بلدنا هذا خاصة، وعن بلاد المسلمين عامة، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، إنك على كل شيء قدير، اللهم احفظ علينا أمننا، وإيماننا، واستقرارنا في أوطاننا، وأصلح سلطاننا، وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلح بطانتهم، وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
عباد الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل:90-91]، فاذكروا اللهَ يذكرْكم، واشكُروه على نِعمَه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.